المقاومة تفضح الصهيونية- سقوط أيديولوجيا التفوق ووهم الإخضاع

المؤلف: د. محسن محمد صالح09.11.2025
المقاومة تفضح الصهيونية- سقوط أيديولوجيا التفوق ووهم الإخضاع

إن ثباتَ المقاومة وبسالتَها المستمرة على مدار ثلاثة وعشرين شهرًا لم يكن مجرد حالة تاريخية عابرة أو حدثًا استثنائيًا يثير دهشة الخبراء العسكريين والسياسيين، بل تحوّل إلى نموذجٍ فريد يقوّض جوهرَ الفكر الصهيوني الاستعماري.

لقد أصبحت حماس وقوى المقاومة شوكةً في حلقِ الاحتلال الإسرائيلي وجيشه الجرّار؛ إنها عقدةُ الرعب من الفشل الذريع في إخضاع الآخر، والخوف من انهيار الأيديولوجية الصهيونية التي تقوم على سلبِ الإنسانية من الفلسطينيين واحتكارِ دور الضحية التاريخية، لتبرير الاستيلاء على أراضيهم وقتلهم وتهجيرهم قسرًا.

إنه الهلع من انعكاسِ الصورة، حيث يرى العالمُ بأسره الصهيونيةَ مجرّدةً من الإنسانية، بينما ينتصرُ الفلسطينيُّ بهويته وقيمه وإنسانيته وسلوكه الحضاري.

تكمن خطورةُ هذا الأمر في أن نجاحَ المقاومة يُفقد المشروعَ الصهيوني أسسَ جدليته ومبرراتِ وجودهِ الزائفة.

العقلية الفوقية وتقديس القوة

يتلاقى المشروع الصهيوني مع المشروع الاستعماري الغربي في مسألتين أساسيتين:

  1. الاعتقاد بـ "التفوق" على الآخرين، ونزعِ الصفات الإنسانية الأصيلة عنهم، وتطبيقِ "الداروينية الاجتماعية" عليهم من خلال منطق "صراع البقاء" و"البقاء للأصلح" أو الأقوى؛ وبالتالي تبرير كل أشكال الاستغلال والوحشية تجاههم وتجاه مقدراتهم.
  2. تمجيد القوة، ومنحِ من يمتلكها الحق المطلق في فرضِ تصوراته وإرادته وهيمنته، باعتبار أن القوة تصنع الحق، وهي التي تملي معاييرها لما تسميه عدلًا أو حريةً أو مساواة، أو حتى في تعريف "الإنسان" نفسه؛ وأن ما لا يتحقق بالقوة يمكن تحقيقه بالمزيد من القوة الغاشمة!

في العقلية الصهيونية، يعتبرون العربيَّ كائنًا متدنيًا، يمثل "الأغيار" أو "العماليق" بكل ما يحملونه من شراسة. لذلك فهو يستحق ما يحل به من مصائب، وعليه أن يدفع ثمن الكوارث التي لحقت باليهود على مر التاريخ. يرى الصهاينة في العربي شخصًا متخلفًا وضعيفًا وجبانًا وشهوانيًا وقابلًا للانقياد والخضوع المطلق؛ وبالتالي يتم تجريد الفلسطيني (الضحية) من إنسانيته لتبرير التخلص منه وإبادته.

يثير الاستغراب تلك الثقافة الإسرائيلية الصهيونية التي تتحدث بشكل طبيعي عن قتل الفلسطينيين وسلب أراضيهم ومقدساتهم وتهجيرهم، كما لو أنه مجرد إجراء روتيني اعتيادي.

تشترك التيارات الصهيونية المختلفة في هذه النظرة الدونية للفلسطينيين (وللعرب والمسلمين عمومًا)؛ حيث يقوم زعماء سياسيون وقادة عسكريون ومفكرون صهاينة بارزون ورجال دين متطرفون بوصف الفلسطينيين والعرب بأوصاف مهينة ومنتقصة من إنسانيتهم، مما يقدم تبريرًا وقحًا لقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير المستشفيات والجامعات والمدارس ودور العبادة والمعالم التاريخية.

كما يلاحظ المراقب أن المجتمع الصهيوني بأطيافه وتياراته المتنوعة منشغل بتحرير أسراه القلائل، ويسعى لإشغال العالم بأسره بـ "معاناتهم"، بينما لا يكاد يوجد بينهم أي تيار حقيقي يعبّر عن أسفه لمقتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء، وتحويل حياة ما يقارب 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة المحاصر إلى "جحيم" لا يطاق، وتدمير بيوتهم وتهجيرهم قسرًا؛ فالمعاناة الفلسطينية الهائلة بكل أبعادها غائبة تمامًا عن قاموسهم وتعاطفهم.

إسقاط النظرية الصهيونية

على مدى عقود طويلة، تعامل الفكر الصهيوني من خلال هذه العقلية المتعالية التي وجدت ما يبررها في انتصاراتها المتتالية على الجيوش العربية، وهيمنتها الكاملة على المنطقة، وفرض مسارات التطبيع القسري، بل وحتى الوصول إلى نتيجة مذهلة تمثلت في توقيع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها على اتفاقات أوسلو المشؤومة، متنازلةً عن معظم أراضي فلسطين التاريخية، وقبولها بتشكيل كيان هزيل وظيفي يخدم مصالح الاحتلال، ويلاحق قوى المقاومة الباسلة.

لكن هذه العقلية الاستعلائية اصطدمت بجدار غزة الصامد، وتعطّلت تمامًا مع قوة حماس والفصائل الإسلامية المقاومة.

عقب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قررت القيادة الإسرائيلية خوض هذه المعركة على أنها معركة وجودية فاصلة: حماية الوجود الإسرائيلي من جهة، واجتثاث جذور المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى؛ لأن الهجوم الجريء قد أسقط النظرية الأمنية الصهيونية المزعومة، وأثبت بالدليل القاطع إمكانية إلحاق الهزيمة بالاحتلال الغاشم.

وبما أن الصهاينة قد أعلنوا هذه الحرب معركة صفرية وجودية بلا هوادة، فقد وضعوا نظريتهم برمتها وجوهر مشروعهم الاستعماري على المحك. لجأوا إلى المزيد من القوة المفرطة، ثم المزيد من البطش والتدمير... المزيد من المجازر الوحشية... المزيد من الدماء والدمار الشامل، دماء وأشلاء أطفال ونساء وشيوخ أبرياء، تهجير قسري وحصار خانق وتجويع ممنهج.. ولكن دون أن يتمكنوا من كسر إرادة الصمود والتحدي.

القوة الغاشمة المتغطرسة واجهتها مقاومة باسلة صلبة قوية فعالة وشجاعة لا تلين.

المزيد من القوة والوحشية المفرطة أدت إلى نتائج عكسية تمامًا: نماذج مقاومة بطولية أسطورية أصبحت حديث الناس والإعلام في جميع أنحاء العالم.

لا يوجد في المخزون الذهني الصهيوني ولا في تجربتهم التاريخية حالة صمود أسطوري كهذه. هناك إحباط صهيوني عميق وخيبة أمل متزايدة بسبب عدم تحقيق نصر حاسم بعد كل هذه المدة الطويلة من العدوان... هناك خوف حقيقي من سقوط النموذج الصهيوني أو تصدعه وانهياره. لقد كان هناك قياس خاطئ وسوء تقدير لقدرة الأنظمة الفاسدة المستبدة العميلة التي هي نفسها نتاج غربي، أو على أمة تموج بالفوضى والضعف.

إن وقف هذه الحرب الظالمة ليس كغيره من الحروب، لأن وقفها وانسحاب العدو المهزوم وبقاء سلاح المقاومة الفلسطينية شامخًا، يعني بالنسبة لليمين المتطرف وللصهيونية الدينية المتطرفة أن أسس منظومة القوة في الفلسفة الصهيونية قد تلقت ضربة قاصمة في الصميم.

لذلك سيسعون بكل الطرق والوسائل ألا تنتهي هذه الحرب الشعواء دون نزع سلاح حماس والمقاومة الفلسطينية، ودون تقرير مصير اليوم التالي لقطاع غزة المحاصر؛ لأن صمود حماس وفرض إرادتها الحرة يعنيان بداية العد التنازلي لنهاية المشروع الصهيوني برمته.

وهذا يفسر الشراسة الصهيونية غير المسبوقة وإطالة أمد المعركة، والإصرار المستميت على تغيير الخرائط السياسية والجغرافية للمنطقة.

التفوق الإنساني الفلسطيني

المجازر المروعة التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء، من الأطفال والنساء والشيوخ، قوبلت بنماذج رائعة في الصبر والثبات والاحتساب من قبل حاضنة شعبية عانت أهوالًا لا تطاق، لكنها قدمت للعالم أساطير ملهمة في تحدي العدو الغاصب، وفي الانتصار الساحق في معركة الإرادة.

آلاف النماذج التي جسدت عظمة الصحابة والتابعين، تحولت إلى أيقونات عالمية ورموز متألقة في سجل التاريخ. رمزية "التضحية" ورمزية "الضحية" أصبحتا مرتبطتين بشكل وثيق بالإنسان الفلسطيني المناضل. عشرات الملايين من البشر حول العالم وجدوا في ذلك حالة إلهام فريدة، ودخل الكثيرون منهم في الإسلام.

لم تفضح غطرسة القوة الصهيونية فقط توحشها الشنيع وقيمها الزائفة وبكائياتها المصطنعة واحتكارها لدور الضحية، وإنما كشفت في المقابل أروع وأنبل ما في هذه الأمة العظيمة؛ أظهرت نموذجها الحضاري الإنساني الرفيع وتراثها العريق الممتد عبر آلاف السنين، وأظهرت أصالة الإنسان العربي المسلم، المتجذر في أرضه منذ القدم. شهد الجميع أنه ليس "حيوانًا بشريًا"، وليس مجرد "شيء" أو "مادة حيوية"، تُنزع عنه إنسانيته ليُبرر قتله وشطبه من الوجود.

بكل بساطة، عندما يلتزم إنسان هذه المنطقة بعقيدته الإسلامية السمحة وتراثه الحضاري العريق ويستعلي بإيمانه الراسخ، فإنه لا يعود غير قابل للإخضاع والقهر فحسب، بل يستعيد دوره الحضاري المحوري في قيادة البشرية نحو الخير والعدل والسلام.

لقد قسمت العقلية الصهيونية التي يمثلها الاحتلال الإسرائيلي الغاشم العالم إلى عالمين متناقضين: عالم حضاري وعالم بربري، واعتبرت نفسها ممثلة للعالم الحضاري، ولكنها انتهجت سلوكًا بربريًا وحشيًا، وأصبحت بذلك رمزًا للعالم البربري المتخلف في نظر العالم أجمع.

المزيد من التوحش والتدمير الصهيوني كشف الضحية الحقيقية، وأسقط فكرة "احتكار دور الضحية" لدى الصهاينة، وفتح المجال أمام العالم للتخلص من "عقدة الهولوكوست"، وأضعف حالة الابتزاز الصهيوني الدائم للعالم من خلال المتاجرة بهذه العقدة.

لذلك، يمكن القول بكل ثقة أن حماس والجهاد الإسلامي وبقية قوى المقاومة الفلسطينية، ومعهم غزة وفلسطين قد انتصروا في معركة القيم والأخلاق.

أصبحت مغامرة الاستمرار الصهيوني في محاولة إثبات نظريتهم المتداعية، تعني الاستمرار في النزيف العسكري والسياسي والأخلاقي والإعلامي... تعني المزيد من السقوط القيمي المدوي، وتعني المزيد من النزيف الاجتماعي والاقتصادي الحاد، وتعني التحول التدريجي إلى كيان منبوذ على المستويين العالمي والإنساني. لقد سقطت السردية الصهيونية الكاذبة إلى الأبد.

لم يعد بالإمكان تسويق الرؤية الاستعمارية الصهيونية الغربية حول إنسان هذه المنطقة باعتباره شخصًا ضعيفًا وجبانًا ومتخلفًا. إن إسقاط هذه الرؤية الزائفة يعني إسقاط المبرر الوحيد لوجود هذا الكيان الغاصب و إزالته من الوجود.

إن الخوف الشديد من انكشاف الحقيقة أمام العالم بأسره يفسر استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي المتعمد للصحفيين والإعلاميين وقتلهم، حيث بلغ عدد الإعلاميين الذين استشهدوا حتى الآن 248 إعلاميًا، وهو أكبر معدل قتل للصحفيين في تاريخ الحروب الحديثة؛ بل إنه يتجاوز مجموع من قُتل من الصحفيين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي الحرب الروسية الأوكرانية.

خلاصة

هناك قلق إسرائيلي متزايد بشأن سقوط النظرية الصهيونية الاستعمارية، وانهيار منظومة الخداع والتضليل الزائفة التي شكلها العقل الغربي حول العربي والمسلم والشرقي. هذا السقوط المدوي يبطل الأسس التي تقوم عليها الصهيونية من تفوق عنصري وقدرة على الإخضاع والسيطرة... إنه سقوط مرعب؛ لأن مواجهته والاعتراف به يعنيان عمليًا أنه لم يعد للصهاينة مكان لهم في هذه الأرض المباركة.

وهكذا، فإن توقف الحرب قد يؤدي إلى انهيار المنظومة الأيديولوجية الصهيونية بالكامل. والخيار الوحيد المتبقي هو التوقف والاعتراف المر بالحقيقة المرة. وبالتالي، ستشهد المنطقة حالة إنكار إسرائيلية هستيرية، وحالة مكابرة وعناد غير مسبوقة، وحالة هروب محموم إلى الأمام قد تطيل أمد المعركة أو تحاول توسيع نطاقها. لذلك، فإن إنهاء هذه المعركة الضروس (ما دام الاحتلال مصرا على أنها معركة صفرية)، يتطلب الكثير من الوقت والجهد والتضحيات الجسيمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة